واقع شخللة مفتاح والدي الفنان التشكيلي والنحات أحمد الكشوطي في باب بيتنا القديم، كان له مذاق مختلف، في طفولتي، كانت تلك الشخللة تعني البهجة والانبساط، فقد كان يقضي والدي أغلب وقته في مرسمه يفن تفانينه ويستغرق في رسوماته وتماثيله وأفكاره ويعود ليلا، لا ننام أنا وإخوتي كنا ننتظر شخللة مفتاحه، وفي أحيان أخرى نوعا خاصا من الطبل على باب بيتنا الخشبي، نوع نميز منه أن الطارق هو والدي الفنان.
والدي فنان في كل شيء ينحت ويرسم يغني ويدندن، يعي قيمة الأغنية اللحن الكلمات التوزيع، من خلاله تعرف على السينما العالمية والمسرحيات، عرفت منه قيمة أم كلثوم وعبد الحليم وفايزة أحمد وآخرين، كان يحب الموسيقى والغناء والتمثيل وكل أنواع الفنون، كانت لديه أذن موسيقية، يعرف ما يستحق الاستماع إليه وما يمر مرور الكرام.
وفي بيتنا كان هناك جراموفون، ونختار من أسطوانات كوكب الشرق وفايزة أحمد وعبد الحليم حافظ ما نشاء، والكاسيت يضم موسوعة كاملة من الشرائط الأصلية لكبار المطربين والفيديو بيتاماكس، مع مكتبة كاملة لأشهر وأهم المسرحيات المصرية والعربية والعالمية والأفلام الحاصلة على جوائز، وفي ليلة السبت كنا نشاهد الأفلام ببرنامج نادي السينما، كانت العائلة بأكملها تتجمع في منزلنا تتابع المسرحيات والأفلام في تليفزيون بيتنا الملون، والذي طالما نال منا ضربات بالشبشب لتعود الألوان إلى طبيعتها كلما خفت لون من ألوان الشاشة.
عودة لشخللة مفتاح والدي في باب بيتنا، ولماذا كانت مرادفا للبهجة والانبساط، لأن والدي كان يقضي أغلب وقته في العمل، ولأنه في زمن ما ليس ببعيد عن مولدي كانت التكنولوجيا تخطو خطوات مرعبة، فكان تقدير ما يقدمه والدي من فن بدأ ينحسر، فلا أحد يريد شراء لوحة زيتية يدوية، بينما يستطيع شراءها مطبوعة بالكمبيوتر، لذلك كان والدي يحاول بكل السبل تعويضنا ليس فقط عن غيابه طوال اليوم ولكن لغياب الكثير من الاحتياجات مع انحسار الموارد المادية بسبب تدنى الذوق العام وقلة تقدير الفن الحقيقي واستبداله بالفن "البلاستيك".
أصبح طقس شبه يومي، يأتي أبي ليلا نسمع شخللة مفتاحه أو طبلة خبطه على الباب، نجري جميعا نرتدي شباشبنا مهللين بابا جه بابا جه، مستعدين بكامل طاقتنا لرحلة من رحلات الليل وآخره.
في سيارة فيات 132 حمراء، تبقت مما تبقى من مدخرات الماضي المتناقصة، كانت تبدأ الرحلة نركب أنا وإخوتي، ويأخذنا والدي "لفة" كما كان يحب أن يطلق عليها، الناس نيام والشوارع فارغة من البشر إلا قليل، يسير بسرعة معقولة، يضع شريط كاسيت من شرائط أحمد عدوية، من هنا تعرف على هذا العبقري، كنا نسمع ولا نعى المعنى "عمي يا صاحب الجمال .. السح الدح أمبو ادي الواد لأبوه يا عيني الواد بيعيط الواد عطشان اسقوه"، وأحيانا "يا بنت السلطان حني على الغلبان دي المياه في ايديكي وعدوية عطشان"، "كركشجني دبح كبشه"، "ما بلاش اللون ده معانا"، "زحمة يا دنيا زحمة"، عالم آخر مغاير لما نسمعه في الجراموفون من أم كلثوم وفايزة أحمد والعندليب وفريد.
تعرفت على عالم عدوية من خلال والدي، فتح أمامي عالما آخر من أبواب الموسيقى والغناء، عالم مبهج بمفردات جديدة بموسيقى لا تشبه غيره، أُخرج يدي من شباك السيارة، الهواء يتخلل أصابعي، أدندن يا بنت السلطان.. غاب أبي وما زلت أنتظر شخللة مفتاحه، وغاب عدوية وظلت أغنياته مرادفا للبهجة والانبساط.
ملحوظة: مضمون هذا الخبر تم كتابته بواسطة اليوم السابع ولا يعبر عن وجهة نظر مصر اليوم وانما تم نقله بمحتواه كما هو من اليوم السابع ونحن غير مسئولين عن محتوى الخبر والعهدة علي المصدر السابق ذكرة.
0 تعليق