كتب: كمال ميرزا
التحذيرات المنسوبة إلى المبعوث الأمريكيّ "ستيف ويتكوف" حول إمكانيّة سقوط النظامين في الأردن ومصر بسبب الأحداث في غزّة هي قمّة الوقاحة والصفاقة.
ويزداد مقدار هذه الوقاحة والصفاقة بكون هذه التصريحات تزامنت مع إحياء الأردنيّين ذكرى "معركة الكرامة"، يوم اختلطت دماء الجنود الأردنيّين النشامى بدماء أشقّائهم الفدائيّين الفلسطينيّين الأبطال بدماء الأهالي الصامدين المرابطين من أجل تسطير ملحمة ضدّ جرذان الكيان الصهيونيّ باقية عبر التاريخ.
لا يخفى على أي شخص يمتلك الحدّ الأدنى من الثقافة السياسيّة ما تتضمنه تصريحات "ويتكوف" الخبيثة من تهديد مضمر وابتزاز رخيص لكلّ من الأردن ومصر.
ربما تكون مواقف النظامين الأردنيّ والمصريّ إزاء معركة "طوفان الأقصى" لم ترتقِ بعد لتلبّي عشم وتشفي غليل قطاع كبير من شعبي البلدين وسائر أحرار الوطن العربيّ والأمّة الإسلاميّة.. ولكن مواقف النظامين في نفس الوقت لا تنحدر بأي حال من الأحوال لتكون انسحاقاً أمام الأمريكيّ والصهيونيّ وتواطؤاً معهما ضدّ الشعب الفلسطينيّ وحقوقه ومقاومته على غرار بلدان أخرى وأنظمة أخرى في المنطقة!
النظامان الأردنيّ والمصريّ يحاولان بسياستهما ودبلوماسيّتهما إمساك العصا من المنتصف، وبغض النظر عن مدى رضا الشعوب عن هذا النهج، فإنّ أحداً لا يرضى بأن يأتي الأمريكيّ والصهيونيّ ويلوّحان للأردن ومصر بالعصا نظير ذلك!
يبدو أنّ الـ "لا" الصريحة التي قالها النظامان الأردنيّ والمصريّ وما يزالان يصرّان عليها حتى هذه اللحظة ضدّ مخططات التهجير، وضدّ ما تُسمّى "خطة ترامب"، وضدّ استقبال الأردن ومصر لأهالي غزّة (والضفة) المُهجّرين.. قد "طلعت من شبك راس" ويتكوف وأسياده في "واشنطن" و"تل أبيب" بحسب التعبير الدارج!
ولعلّ عنجهيّة "ترامب" وفريقه الذي لا يقلّ عنه عنجهيّةً هي ما أوحت لهم بأنّ صيغة "طعمي الثُم بتستحي العين" يمكن أن تكون ساريةً وقابلةً للتطبيق في هذا السياق.
بالورقة والقلم، ما تستفيده أمريكا تكتيكيّاً وإستراتيجيّاً من اتخاذها الأردن ومصر حليفين إقليميّين يفوق بأضعاف ما تقدّمه للأردن ومصر من مساعدات، وما يستفيده الأردن ومصر من هذا الحلف "الزراطة".
بكلمات أخرى، "جْمِيلِة" ويتكوف وترامب وأمريكا كلّها على حالهم!
وإذا كان "ويتكوف" ومَن هم على شاكلته يظنّون بأنّ القوّات الأمريكيّة وقوّات بعض دول "الناتو" على الثرى الأردنيّ ستجعل من "السيّد الأبيض" آمراً ناهياً فهو مخطئ أشدّ الخطأ، والأردنيّون مستعدّون عند الإيجاب لطرد هذه القوّات خارجاً بأسنانهم وأظافرهم!
في الأردن لا يوجد هناك بين الشعب ونظام الحكم تاريخ من الدم أو الحيف أو الأحقاد يمكن أن تُبنى عليه جفوة وقطيعة دائمة بينهما، فما بالنا بإسقاط نظام الحكم!
وأقصى مبلغ بلغته المعارضة في الأردن خلال التاريخ الحديث للدولة الأردنيّة هو الاعتراض على أسماء أشخاص بعينهم داخل بُنية النظام باعتبارهم لا يصلحون أو ليسوا الأصلح.. ولكن ليس الاعتراض على بُنية النظام نفسه.
وفي الأردن لا توجد داخل المجتمع خلافات وتنافرات وتناقضات وانقسامات عموديّة وأفقيّة تتيح التصيّد في الماء العكر، وتصلّ حدّ تواطؤ الأردنيّين أو فئة منهم ضدّ دولتهم وبقية أبناء مجتمعهم مهما حاول البعض التهويل من حجم هذه الخلافات والنفخ فيها.
وفلسطين مزروعة في وجدان كلّ الأردنيّين على اختلاف منابتهم ومشاربهم، مثلما أنّ وطنهم الأردن مزروع في وجدان كلّ فرد منهم، والأصوات النشاز التي تنعق بخلاف ذلك من حين لآخر هي الاستثناء الذي يؤكّد القاعدة.
وقمة الغباء إذا ظنّ "ويتكوف" وأسياده أنّهم يستطيعون الرهان على البرغماتيّة المقيتة لبعض التيارات السياسيّة، أو الغباء الأكثر مقتاً لبعض التيارات المتشدّدة الأخرى، من أجل تقويض توافق الأردنيّين وتكاتفهم حول بلدهم وثوابتهم الوطنيّة التي تُعتبر "القضيّة الفلسطينيّة" جزءاً لا يتجزّأ منها.
وبالمثل، رهان "ويتكوف" وأسياده على النخب المتغرّبة (من غرب) من المتكسّبين والمتموّلين الذين استطاعوا تربيتهم وتسمينهم عبر السنوات هو رهان خاسر، بكوننا نتحدّث هنا عن شرذمة رخيصين، جبناء، مفضوحين، ينبذهم النسيج الاجتماعيّ بكافة أطيافه، ولا يمكن التعويل عليهم ساعة الجد، وسرعان ما يحنون رؤوسهم ويلوون ذيولهم بين أقدامهم ويلوذون بالفرار عندما يستشعرون أدنى خطر بكونهم فاقدين لمعنى "الوطن" و"الأصالة" و"الانتماء".
الحالة الوحيدة التي يمكن أن تتحقّق فيها مثل هذه التهديدات المبطّنة هي أن تبدأ قطعان المرتزقة المختبئين وراء فتاوى معلّبة ولحى كاذبة وثوريّة مزيّفة بالتدفّق على الأردن لهذه الحِجّة أو تلك، ونحن نعلم مَن يُشغّل ويُوظّف ويُوجّه أمثال هؤلاء، ولكن حتى في هذه فإنّ الأردنيّين ليسوا بالذين يمكن أن يتخلّوا عن بلدهم ويتنازلوا عنه بهذه البساطة، وكلّ كبير وصغير في الأردن سيكون لهؤلاء بالمرصاد.
أمّا في حالة مصر، فتزداد وقاحة وصفاقة تصريحات "ويتكوف" أضعافاً مضاعفة عندما يقول: "إذا خسرنا مصر فإنّ كلّ الإنجازات التي تحقّقت في التخلّص من حسن نصر الله والسنوار ستذهب أدراج الريح".
فأولاً، ها هو "ويتكوف" يعترف بكل "عين بلطة" بالدور الأمريكيّ في جريمتي اغتيال الشهيدين سماحة السيد "حسن نصر الله"، والبطل القائد "يحيى السنوار".
وثانيّاً، ها هو "ويتكوف" يحاول تصوير "حزب الله" و"حماس" وسائر فصائل المقاومة باعتبارها مصدر التهديد في المنطقة، قافزاً على حقيقة أنّ فصائل المقاومة هي حركات تحرّر وطنيّ مشروعة، وأنّ مصدر التهديد هو ذلك الكيان العنصريّ الاستيطانيّ الإحلاليّ التوسعيّ المُسمّى "إسرائيل" الذي غرسه المشروع الإمبرياليّ الرأسماليّ الصهيونيّ العالميّ في المنطقة.
وثالثاً، ها هو "ويتكوف" يحاول استحضار شبح أو بعبع "الإخوان المسلمين" من طرف خفيّ من أجل ابتزاز النظام المصريّ، مُتغافلاً عن الحقيقة التي يصرّ الجميع على إغفالها والتعامي عنها، وهي أنّ البطل الشهيد "يحيى السنوار" قد قطع ارتباط "حماس" كحركة تحرّر وطنيّ بـ "الإخوان المسلمين" منذ العام 2018، وأنّ إعادة ربط "حماس" بـ "الإخوان" أو إعادة أخونتها هي مؤامرة على "حماس" نفسها وعلى مشروع تحرّرها الوطنيّ نفسه قبل أن تكون مؤامرة على أي طرف آخر.
خلاصة الكلام، إذا كان هناك خطر حقيقيّ يمكن أن يتهدّد النظامين الأردنيّ والمصريّ فمصدره الأمريكان والصهاينة أنفسهم، وإصرار الأردن ومصر على اتخاذ الأمريكيّ حليفاً والصهيونيّ صديقاً على حساب خيارات قوميّة وإسلاميّة - إقليميّة ودوليّة أخرى!
تنويه أخير، "ويتكوف" في تصريحاته وَصَفَ ما يحدث في غزّة بـ "الأحداث"، وما يجري في غزّة ليس أحداثاً، بل حرب "إبادة وتهجير" ممنهجة تشنّها أمريكا بلوبيّاتها وشركاتها وصناديقها السياديّة على الشعب الفلسطينيّ من خلال "الكيان الصهيونيّ"، رأس حربتها وقاعدتها المتقدّمة في المنطقة!
0 تعليق