عرب فايف

استراتيجية التباطؤ الأكاديمي: إعادة بناء التعليم العالي العربي في مواجهة ثقافة السرعة - عرب فايف

جو 24 :

في عالم أكاديمي تزداد فيه وتيرة العمل وتتصاعد الضغوط، يأتي كتاب "الأستاذ البطيء: تحدي ثقافة السرعة في الأكاديمية” للمؤلفتين ماجي بيرغ وباربرا ك. سيبر بمثابة رؤية استراتيجية، لا مجرد أطروحة فكرية، تدعو لإعادة تقييم منهجيات العمل الأكاديمي وسرعة الأداء التي باتت تهيمن على مؤسسات التعليم العالي حول العالم. وبينما ينطلق الكتاب من واقع الجامعات الغربية، فإن انعكاساته تبدو أكثر حدة وتأثيرًا عند إسقاطه على واقع التعليم العالي في العالم العربي.

لقد أصبحت الجامعة العربية – في كثير من الدول – تسعى إلى تحقيق تصنيفات دولية مرموقة، فتتبنى معايير كمية في التقييم، تركز على عدد الأبحاث المنشورة، ونسبة الاقتباسات، وعدد البرامج، وحجم التمويل، وغيرها من المؤشرات التي تعكس حركة سريعة لا تهدأ. إلا أن هذا التوجه، وإن كان يستهدف التطوير والارتقاء، غالبًا ما يتجاهل الجوانب النوعية العميقة التي تشكّل جوهر العملية التعليمية والبحثية.

السرعة مقابل العمق: صراع خفي في قلب الجامعة

يركز الكتاب على مفهوم "البطء” لا باعتباره مضادًا للتقدم، بل كآلية لاستعادة العمق، والتأمل، والفاعلية الإنسانية داخل الحرم الجامعي. يتحدث عن البطء بوصفه استراتيجية لاستعادة المعنى، إذ إن التعليم والبحث لا يمكن أن يُختصرا في مؤشرات سريعة أو إنجازات لحظية. إنما هما عمليات معرفية معقدة تحتاج إلى وقت، ومساحة ذهنية، وبيئة داعمة.

في السياق العربي، نجد أن تسارع نماذج العمل داخل الجامعات، واختزال دور الأستاذ الجامعي في "آلة إنتاج بحثي”، يُنتج آثارًا خطيرة. فبدلًا من أن يكون الأستاذ شريكًا في بناء المعرفة، يتحوّل إلى منفذ لسياسات إدارية وأكاديمية تستجيب لضغوط التقييم السريع والتمويل الخارجي. هذا التحول يُضعف من الدور الإنساني والتربوي للأستاذ، ويفقده القدرة على التأثير الفعلي في طلابه ومجتمعه.

التعليم كعملية إنسانية لا كمنتج تجاري

في الفصل الثاني من الكتاب، تشير المؤلفتان إلى أهمية إعادة النظر في العملية التعليمية بوصفها تفاعلًا إنسانيًا، لا مجرد نقل للمعلومات. ويبدو هذا الطرح ملحًا في عالمنا العربي، حيث يعاني كثير من الأساتذة من ضغوط كثافة المقررات، وازدحام الصفوف، وغياب السياسات المؤسسية التي تتيح لهم تطوير طرق تدريس مبتكرة أو تعزيز التفاعل الطلابي.

التعليم الجامعي، بحسب الرؤية "البطيئة”، ليس مجرد تقديم محتوى، بل هو تجربة معرفية وعاطفية تحتاج إلى تفرغ ذهني وزمني. وحين يُفرغ الأستاذ من هذه الإمكانيات، يصبح التلقين بديلاً عن الحوار، والاختبارات بديلاً عن التفكير، والإنجاز السريع بديلاً عن الإبداع العميق.

البحث الأكاديمي: الجودة لا الكمية

في الفصل الثالث من الكتاب، يركز المؤلفتان على خطورة الانجراف خلف الكم في الإنتاج البحثي. وهو أمر يلاحظ بشدة في الجامعات العربية، التي باتت تدفع أعضاء هيئتها التدريسية إلى النشر بأي وسيلة، وأحيانًا في مجلات ذات جودة مشكوك فيها، فقط للحصول على ترقيات أو تحقيق متطلبات التصنيف.

هذا التسابق على النشر يخلق بيئة بحثية مشوهة، تهتم بالنتائج السريعة ولا تتيح مساحة للتفكير العميق أو استكشاف الأسئلة الجوهرية. بينما يدعو الكتاب إلى تبنّي البحث "البطيء” بوصفه منهجًا في التفكير، حيث يُنظر إلى كل مشروع بحثي على أنه رحلة معرفية تتطلب وقتًا، ومراجعة، ونقاشًا، لا مجرّد وثيقة للنشر.

إعادة بناء بيئة أكاديمية عربية داعمة

أما في الفصل الرابع، فيُبرز الكتاب أهمية "الزمالة” والعمل الجماعي والتواصل الإنساني بين الأكاديميين. ويشير إلى أن سياسات العزل الفردي، والتركيز على التنافس لا التعاون، تضعف من الروح الأكاديمية وتزيد من التوتر والاحتراق الذهني. وهو ما نلاحظه في كثير من الجامعات العربية، حيث يعاني الأساتذة من عزلة مهنية وشخصية، ولا يجدون الدعم المؤسسي أو النفسي اللازم لممارسة دورهم بفعالية.

إذن، الحاجة اليوم ليست إلى إبطاء العمل الأكاديمي من أجل التراجع، بل إلى تبني "استراتيجية التباطؤ” كوسيلة لاستعادة جوهر التعليم العالي. فبدلاً من أن تكون الجامعات العربية مجرد مواقع تنافسية تُقاس بأرقام وتصنيفات، يمكن أن تتحوّل إلى مساحات حقيقية لإنتاج المعرفة، وصناعة الإنسان، وبناء مجتمع التفكير.

ختامًا، إن دعوة "الأستاذ البطيء” لا تعني الوقوف ضد التطوير أو رفض التقييم، بل هي نداء لإعادة تعريف ما يعنيه "النجاح” الأكاديمي، وفتح نقاش استراتيجي حول جودة التعليم في العالم العربي. فربما يكون الحل في أن نُبطئ قليلًا… لكي نصل أبعد.

أخبار متعلقة :