عرب فايف

بين الإفراط والتفريط: أما منّا رجل رشيد؟ - عرب فايف

 

 

حِرْصٌ كبير وغيرة أصيلة أبداها الاردنيّون على وطنهم ودولتهم وأمنهما وأمانهما خلال الأسبوع الماضي، ولكن هذا الحرص وهذه الغيرة قد سقطا لدى الكثيرين من حيث يدرون ولا يدرون في فخّ الإفراط والتفريط!

الإفراط من حيث المبالغة، والتفريط من حيث إزدواجية المعايير!

كثيرون بالغوا في ردود أفعالهم، سواء من حيث لغة الإساءة والتحريض والإقصاء التي استخدموها، أو من حيث المضامين العنصريّة والفئويّة والجهويّة لكلامهم.

مثل هذه اللغة ومثل هذه المضامين من شأنها في سياقات أخرى أن تتسبب بفتن وقلاقل وعنف، لولا أنّ لُحْمَة المجتمع الأردنيّ وتكاتف أبنائه وإرثهم الجمعيّ المشترك أكبر كثيراً من ضيق أُفق هؤلاء وغِلّ أنفسهم.

والمؤسف، أنّ كثيرين قد قالوا ما قالوه ونشروا ما نشروه، وكثيرين انجرفوا وراءهم، باسم الولاء والانتماء والمزاودة في حبّ الوطن.. والولاء والانتماء والوطن براءٌ من كلّ هذا!

والعنصريّة و"حميّة الجاهليّة" لا تصير مقبولةً ومبرّرةً ومشروعةً لمجرد أنّ أصحابها يتلفّحون بالأعلام ويردّدون الشعارات ويرفعون عقيرتهم بالأغاني.

الوطن جوهر ومضمون..

والانتماء جوهر ومضمون..

والعَلَم جوهر ومضمون..

والتمسّك الشكلانيّ الاستعراضيّ البرانيّ الطقوسيّ بهذه الرموز كلّها لا معنى له متى ما كان مُنسلخاً، بل ومُناقضاً، لجوهر ومضمون ومعاني هذه الرموز.

الوطن اسمٌ جامع.. والانتماء اسم جامع.. والعَلَم اسم جامع..

والذين ينادون بـ "الوطنيّة" ويزاودون باسمها، ولكنّهم يريدونها على شرْطهم وحدهم، ويُنكرون ويُقْصون ويُخوّنون كلّ ما عداهم ومَن عداهم.. هم فعليّاً أعداء للوطنيّة!

والذين يتشدّقون بالانتماء ولكنّهم يريدونه على شرطهم، ويقيّفونه على مقاسهم، وعلى مقاس حدود رسمها الاستعمار وتضاريس رسمتها الجغرافيا.. هم فعليّاً أعداء للانتماء!

والذين يتلفّحون العَلَم ويتوشّحون به.. ولكنّهم يريدونه لهم حصّراً ويتفيّؤون بظلّه وحدهم.. هم فعليّاً يسيئون للعلم!

كما أنّكَ عندما تتأمل في الطريقة التي عبّر من خلالها هؤلاء عن انتمائهم ووطنيّتهم، وتتأمل في خطابهم ولهجتهم التي تسيّدت المشهد و"المجال العام" و"الفضاء التواصليّ" خلال الأيام الماضية، لا تملك إلّا أن تقول: "أسمع كلامك يعجبني أشوف حالك أستعجب".. خاصة وأنّنا جميعاً أبناء "حارة ضيقة" ونعرف بعضنا بعضاً!

تجييش.. وتجييش.. وتجييش.. دون أن يسأل المنخرطون في هذا التجييش أنفسهم: كيف سيستفيد الوطن الذي يزاودون باسمه من هذا؟ ومَن المستفيد الحقيقيّ من وراء كلّ هذا؟

تجييش.. وتجييش.. وتجييش.. دون أن نرى هؤلاء الذين يُجيّشون باسم الوطن في هذا المقام.. يُبدون نفس الحرص والاندفاع والحميّة في مقامات أخرى تمسُّ الوطن وتهدّده!

وهذا ما يقودنا إلى المثلبة الثانية: إزدواجية المعايير!

فأولئك الذين انفلتَ عقالهم، وشرعوا بالتجريم والتخوين والتحريض والتعريض بحجّة القضيّة الأمنيّة التي كشفتْ عنها دائرة المخابرات العامّة مؤخراً.. لا نراهم يُبدون نفس أو نصف أو حتى معشار هذه الفزعة والجرأة تجاه قضايا أخرى تمسُ الوطن والمواطن في صميم أمنهما وأمانهما ومستقبلهما كمشروع قانون ضريبة الأبنية والأراضي الجديد على سبيل المثال!

فإذا كانت قضية تصنيع الأسلحة من أجل تهريبها لدعم المقاومة في فلسطين المحتلّة تمسّ السيادة والأمن بمعناهما المباشر، فإنّ مشروع قانون الضريبة بصيغته المُقترحة يمثّل خطراً أكبر على السيادة الوطنيّة والأمن بمفهومها الواسع والشامل وبعيد المدى، خاصة إذا ما أُخِذَتْ بعين الاعتبار السياقات والتشريعات الأخرى التي تحيط بهذا القانون، والتي تحابي رأس المال ومَن يملكون على حساب مَن لا يملكون بذريعة تشجيع الاستثمار، وتسمح بتملّك الأجنبي ومساهمته في المحافظ والصناديق الوطنيّة أيّاً كان أصله وفصله، وتزيد من صعوبة أن يبقى المواطن الأردنيّ حرّاً مستقلاً متماسكاً ومحافظاً على مُلكيّته في وطنه وقد فقد ملاءته الماليّة وسقط في فخّ الديون والقروض، وتعمل على إرساء وترسيخ شرخ عمودي في بنيّة المجتمع الأردني يضاف إلى الشروخات الأفقيّة التي يتسبب بها المحرضون والمجيّشون!

وبالعكس، فإذا كان خطر قضيّة تصنيع الأسلحة قد زال عمليّاً بعد أن تمكّنتْ الأجهزة الأمنيّة من فكّ ملابساتها وتوديعها للقضاء صاحب الكلمة الفصل والنهائيّة.. فإنّ مشروع قانون الضريبة وغيره من التشريعات والسياسات الموازية ما تزال خطراً محدّقاً يتربّص بالأردن والأردنيّين جميعهم من شتّى "الأصول" و"المنابت" ـ باستثناء طبعاً نادي "النخبة" و"المال والأعمال" وشركائهم الإقليميّن والدوليّين!

فلماذا هذه الإزدواجيّة، ولماذا هناك "خيار" و"فقوس" عند الدفاع عن الوطن!

مجرد عدم وجود مثل هذا التمييز لدى الغالبيّة، هذا وحده يشي أنّنا إزاء أزمة "وعي وطنيّ" حقيقيّة.

وطبعاً لا نستطيع أن نعتب على عموم الناس، بمقدار ما أنّ العتب والتقريع موجَّهَين إلى أولئك الذين يصوّرون أنفسهم كتّاب ومثقّفي و"أنتلجنسيا" الوطن وحرّاس بوابته.

كيف يمكن أن نثق بـ "وطنيّات" ومزاودات كاتب أو مثقف أو أكاديميّ أو شخصيّة عامة "سكتَ دهراً"، ونراه الآن يستشيط حميّةً وجرأةً تصل حدّ التحريض وانتهاك القانون.. وهو الذي لم ينبسْ مثلاً ببنت شفة طوال الأشهر الماضية حيال حرب الإبادة والتهجير التي يشنّها العدو الصهيو-أمريكيّ ومخططه المُعلن جهاراً نهارا لإعادة تشكيل الشرق الاوسط وتوسيع "إسرائيل".. أو لم نسمع أنّه قد أتى في حياته بكلمة بشأن قضية خصخصةٍ أو بيعٍ لمقدّرات الوطن أو تأجيرٍ لترابه أو مديونيةٍ أو فساد!

والعتب أيضاً، عتباً يصل حدّ اللوم، إلى أصحاب القرار داخل أجهزة الدولة الذين يسمحون بمثل هذا التجييش والإنفلات في الخطاب العام، وهم الذين كانوا يُسارعون للمطالبة بمنع النشر وحظر الكلام في مسائل أصغر وأهون!

ولا يخفى هنا أنّ نسبة كبيرة من أصحاب القرار الذين تغلغلوا في مفاصل الدولة خلال العشرين سنة الماضية بفعل بركات التطوير والتحديث والتعاون المشترك هم للأسف من تلك الفئة التي يمكن أن نُطلق عليها وصف "حافظ مش فاهم"؛ بكون كثير منهم حَمَلَة شهادات و"كراتين" ويتمتعون بالكفاءة التكنوقراطيّة والفنيّة والأداتيّة.. ولكنهم في نفس الوقت يفتقرون إلى مقوّمات الحصافة والحِنكة وبُعد النظر اللازمة في رجل الدولة كما اعتدنا في مراحل سابقة من عمر الدولة الأردنيّة!

ولعل المقابلة المطوّلة التي بثتها إحدى الفضائيّات مؤخراً مع دولة رئيس الوزراء السابق "أحمد عبيدات" شاهد عمليّ على ذلك، فبعيداً عن المواضيع المهمّة والحساسّة التي تطرّقتْ إليها المقابلة، وفحوى كلام "عبيدات".. أنتَ لا تملك إلا أن تعقد مقارنةً مؤسفة بين الواقع والسياق الحاليّين وما كانه "رجال الدولة" فيما مضى!

صانع القرار الأردنيّ يريد أن يستغل ويستثمر "الإنجاز الأمنيّ" الذي حقّقته الأجهزة الأمنيّة سياسيّاً ودعائيّاً، وهذه مسألة مفهومة، ومن الممارسات الاعتيادية و"الاحترافيّة" في عالم السياسة، ولكن كما يُقال: "كلّ شيء زاد عن حدّه انقلب إلى ضدّه"، خاصة إذا ما حاول البعض استغلال ما حصل للغمز في قناة المقاومة وتجريمها و"شيطنتها" إن تلميحاً أو تصريحاً، أو لفت الأنظار وحرف البوصلة عمّا يحدث في غزّة والضفّة، أو جعل هذه في مقابل الاعتقالات الواسعة التي طالت المتظاهرين المتضامنين مع غزّة والمقاومة، أو جعلها في مقابل المطالبات التي لم تنقطع من قِبَل شريحة شعبيّة واسعة بقطع كافة أوجه العلاقات والتبادل مع الكيان الصهيونيّ، وإلغاء معاهدة وادي عربة أو على الأقل تجميدها حتى إشعار آخر، والاعتراف بفصائل المقاومة الفلسطينيّة رسميّاً كحركات تحرّر وطني مشروعة.

كما قلنا، حِرْصٌ كبير وغيرة أصيلة أبداها ويبديها الاردنيّون على وطنهم ودولتهم وأمنهما وأمانهما، لذا فإنّ آخر شيء يحتاجه الوطن وتحتاجه الدولة حاليّاً هو شقّ الصفّ، وبثّ روح الفُرقة والانقسام على الذات، والتلويح بالعصا.. سيما وأنّ هناك غرب النهر كيان صهيونيّ إجراميّ متربُص، لا يُخفي حقيقة نواياه ومخططاته تجاه الأردن وغير الأردن، حتى لو حاول البعض التعامي عن هذه الحقيقة، أو التهوين منها، أو التهرّب من استحقاقاتها عبر افتعال معارك ومهاترات جانبية!

المَثَل الدارج يقول: "إذا جن ربعك عقلك ما بنفعك".. ولكن في مثل هذه الظروف التاريخيّة والمنعطفات المصيريّة فإنّ الانتماء الحقيقيّ يُملي على كلّ مواطن أردنيّ/ عروبيّ/ إسلاميّ غيور ومُخلص أن يتصرّف وكأنّه آخر العقلاء، وآخر الراشدين!


أخبار متعلقة :