نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
ما يترسّبُ فينا من ماضينا - عرب فايف, اليوم الجمعة 9 مايو 2025 01:36 صباحاً
ولعل أبرز ما تحتفظ به ذاكرة (عيّنات) من أجيال، في مناطق بعينها (رهبة الأب) باعتباره نموذجاً أولياً للسلطات التي نذعن لها غالباً، ونتمرد عليها أحياناً؛ وبعضُ الأحايين تكون الهيبة والسُّلطة في يدّ الأُم، عندما يؤثر الأبُّ السلامة، وكم من سيدات تجاوزت سلطتهن وقسوتهن، سلطة وقسوة السادة الآباء، وكُنّ يقلُنَ ويطُلنَ، وهنّ أهلٌ لذلك.
وفي المدرسة كانت تتسع دائرة السُّلطات، بما في ذلك سُلْطة المُحضّر الذي كان يعمد لمنزل الطالب الغائب، ويحمله على كتفه، أو يسحبه إلى المدرسة سحباً، وهناك هو ونصيبه، وتنكمش محيطات السلطات، وتتمدد، بحسب دماثة خلق المدير، والوكيل والمعلمين، وشراستهم، زد على ذلك سلطة الجار، وإمام المسجد، والعريفة، أو العمدة، ممن مارسوا (القمع) وربما بالباطل ودون وجه حق، ولم يتوقعوا أن المقموعَ سيتحوّلُ إلى كائن مُشوّه الداخل، وقامع.
ومن الطبيعي، أن تأتي مرحلة الوظيفة، وهي ليست دائماً مريحة أو موفقة، فتزيد الطين بلة، ويعقبها الزواج وربما تتفاقم صور الضغط النفسي والمتاعب الوجدانية، ولعل للعجز عن الوفاء بالتزامات فوق طاقة الإنسان؛ ألماً معنوياً، ولكل ألم بصمة تنطبع بجدران الوعي واللاوعي، وتتمثّل لاحقاً في ردود الأفعال غير المتوقعة ولا متوازنة.
ولا خلاف على أنه لا أسوأ من العذابات في حياة بني آدم، فهي تخلّف ندوباً لا تُرى بالعين المُجردة، وهناك من لحقه شظف العيش الذي يعني (الفقر) أو التقتير والبخل من بعض الآباء؛ وربما اليُتم، والمهانة؛ والتسلط، ناهيك عن شيء من شعور بالدونية في أشرس حالاتها، بحكم تطبيق بعض المكونات معايير الفرز والتمييز الاجتماعي، ولا أنسى سياط الطفولة؛ للتحفيز على الاستيقاظ والعمل، بحكم ظروف الاقتصاد ودواعي عوامل الإنتاج، ومن كل ذلك، ومما هو أبعد من ذلك تتشكّل الهوية والذائقة والذاكرة والمشاعر.
ولستُ من يجنح، ويصف البعض ممن هم نتاج بيئات قاسية ومتسلّطة بغير أسوياء، بل ربما كانت ظروفهم غير سوية، وبالطبع ليسوا جميعاً سواء، فمنهم من صقلته الخشونة ليكون أنعم وأرق من النسمة، وأرقى وأعلى من سحاب السماء، ولكني أتفهم، وألتمسُ عذراً لمن أتيقن أن مياسم الجور والقسوة، لا زالت عالقة بنياط قلبه.
ولا ريب أن تعب الفؤاد مميت للضمير، وإخفاق العاطفة، وانكساراتها، وبؤس الفتوّة؛ يخلق لاحقاً نماذج بشرية شوهاء، منها الشرس، واللصّ، والنفعي، والعُدْوَاني، والمتآمر، والغشاش، والخائن، وغيرهم ممن يعانون أمراضاً معنوية، يقف الطبّ الحديث حائراً أمامها، بل يتعذر أو يصعب عليه تفسير أسبابها.
بالطبع لا يمكن الانتقام من قسوة الماضي البئيس، بارتداء الغالي والنفيس، ووفرة الفلوس لا تخفف عناء النفوس؛ ولو مثّل لنا التديّن المبني على عِلم وفقه، طوق نجاة، وغدا التعليم المُميّز ملاذاً، وأضحت المعرفة والخبرات مرفأً آمناً؛ وأصبحت الثقافة، والفنون، ولاحقاً الأصدقاء؛ مطببات، وبلاسم تنتزع؛ الكثير من أشواك ورماح الغلظة، وتخفف ثقل الروح، إلا أنها لا تبرئ كل الجراح الغائرة، ولا تطمس جميع آثارها.
ولعلّ من رحمة الله بأجيال، أن هيأ لها في منعطفات خطرة محطات وادعة، منها جارة حنون، أو جدّة نورانية؛ أو جدّ أو خال أو خالة أو عمّة كرماء؛ ممن يسحبون عن سطح الفؤاد (الوعثاء) كما يلقط المزارع عن الماء، من الفلج الغثاء، ودولتنا أعزّها الله عزّت ورزّت مقامات الناس، ولها فضل الانتقال من البؤس إلى الرخاء، وربما قاربت بين الطبقات بالرواتب والإعانات والطفرات، فجاءت أزمنة مغالات عمّت وطمّت، بما في ذلك غلوّ الكرم فوق المنشود، والجود غير المعهود، والدولة عندما قامت بواجبها، وأدت ما عليها قصدت الرفق بالناس، وتمكينهم من حياة مريحة، إلا أنها لم تطمح، ولم تشرعن، ولا تؤيد الإسراف ولا الخيلاء، ولم ولن تبارك الهياط ولا نعرات الجاهلية.
تلويحة؛ إن لم تفدنا جرعات علاج مشاعرنا وأخلاقنا (عبادات وتعلّم وخُطب ومواعظ وخبرات) ولم تظهر علينا آثار التعافي، فمن الطبيعي أن هناك خللاً أو غلطاً أو غِشّاً؛ في الجرعات، أو فيمن تلقاها.
أخبار ذات صلة
أخبار متعلقة :