كتب: كمال ميرزا
من أجمل المصطلحات التي تفتّف عنها معجم "طوفان الأقصى" المبارك "العُقَد القتاليّة".
في هذه اللحظة، وأنا أكتب هذه السطور، بينما أرفل بنعيم بيتي وسقفي، وساعة كهربائي ومائي، وثلاجتي العامرة، وخزائن المطبخ الزاخرة (كم فسدت الحياة منذ تخلّينا عن النمليّة)، والكوندشن الانفيرتر الذي يمنحنا حروراً أو بروداً حسب الطلب، ومقعدة وشطّافة حمامات الماستر والأولاد والضيوف، و"القيزر" الذي يتيح لنا الاغتسال (..) على مدار الساعة، والسيارة التي تنتظر بباب الدار وأستطيع أنّ "أدقّ سلفها" وأذهب بها أينما أشاء وقتما أشاء، أو إذا لم أكن أشعر برغبة بالقيادة فـ "كباتن" التطبيقات جاهزون للقدوم إلى باب بيتي والذهاب بي أينما أريد(..)..
في هذه اللحظة وأنتم تقرؤون هذه السطور (غالباً بفعل الفضاوة)، وتتنعمون بنفس رفاهيّات العيش التي أتنعّم بها وأكثر، وتمتلكون طيفاً واسعاً من خيارات الحياة والحركة، وأوّلها، خيار ألّا تقرؤوا هذه السطور وتوجعوا رؤوسكم بهذه الكلمات..
في هذه اللحظة التي يتنعّم بها أبناء ذلك الزواج السفاح بين "السلطة" و"رأس المال"، أو مَن نسميهم تجاوزاً "علية القوم" أو "النخبة".. بخيارات للمتعة والترفيه والمجون وقضاء الوطر وتحقيق الذات والتحلّل من أي تبعة أو مسؤولية لا يحلم أمثالي وأمثالكم بمجرد التفكير بها..
في هذه اللحظة التي عدنا فيها جميعاً لاجترار نفس همومنا التافهة: ما هي تحلاية ما بعد الغداء اليوم أو "نقرشة" المساء؟! أين سنسهر الليلة؟! ما هو المطعم التالي الذي سنجربه أو الكوفي التالي الذي سنعاين نوعية زبائنه؟! أين ستكون 'طشّتنا" نهاية الأسبوع؟! كيف سنستغلّ عطلة العيد؟! أين سنصيّف هذه السنة؟! حفلة أي فنان سنحضر في المهرجان التالي؟! على وقع أي أغانٍ سنرقص في حفلة الخطوبة أو الزفاف التالية..؟!!
في هذه اللحظة...
هناك شاب ما مثلنا، من لحم ودم مثلنا، يأكل ويشرب ويتنفس مثلنا، ولديه غرائز وشهوات ورغبات وتطلّعات وأحلام مثلنا.. ولكنّه قرّر بكامل وعيه وملء إرادته، أن ينبذ جميع ذلك وراء ظهره، مدفوعاً بإيمان لا يتجاوز عندنا في أحسن الأحوال نطق اللسان ومزاولة بعض الطقوس، ومسكوناً بكلمات ما عادت تعني لنا شيئاً منذ أمد طويل مثل: الوطن.. التحرير.. الحريّة.. الكرامة.. البطولة.. الفداء.. الشهادة.. الأمّة.. الله!
هذا الشاب الذي كان يمكن أن يكون لديه ألف خيار وخيار آخر في الحياة، وأقلّها أن يجلس لا يلوي على شيء يقلّب شاشة هاتفه الذكي مثلما نفعل الآن. هذا الشاب الذي ربما يفوقنا ذكاءً وحنكةً وشبوبيّةً وفحولةً وإمكانات وممكنات تخوّله أن يحظى بكامل الوعود التي يمنحنا إيّاها السوق ونمط العيش الذي نعبده.. ها هو الآن يكمنُ ثابتاً مرابطاً في "عقدته القتاليّة"، لم يرَ ضوء الشمس منذ أسابيع وربما شهور، يقتات ماءً عكراً وحبّات تمر جافة، ويزجي وقته بتلاوة القرآن والدعاء والاستغفار، ومن حين لآخر يمارس بعض التمارين الرياضية في حدود ما تسمح به أبعاد مكمنه الضيق ليزحزح قليلاً تيبّس عضلاته وتحجّر مفاصله، ويستجمر حين يريد أن يقضي حاجته ويتيمم حين يريد أن يغتسل..
هذا الشاب الذي ربما فقد اتصاله وتواصله مع قيادته منذ فترة، وهو يتصرّف الآن بنفسيّة وعقليّة أنّه آخر شخص صامد في الجبهة، وأن كامل عبء القضيّة يقع على كاهله منفرداً..
هل تستطيع أن ترى هذا الشاب؟! هل تستطيع أن تتقمّصه ووجدانيّاً؟! هل تستطيع أن تتخيّل نفسك مكانه على مدار شهور متواصلة، أو شهر واحد، أو أسبوع، أو يوم، أو حتى ساعة؟!
ثمّ بعد ذلك كلّه يأتيك (..) من يقول عن مثل هذا الشاب: "ابن كلب"!
إذا كان أمثال هذا الشاب "أبناء كلب" فيا ليتنا جميعاً أبناء كلاب!
أخبار متعلقة :