بين الكلمات والدماء: كيف تُصنع الحروب بلسانٍ معسول #عاجل - عرب فايف

0 تعليق ارسل طباعة
جو 24 :

 

كتب - كابتن اسامه شقمان - حين أنظر إلى ما يجري في العالم اليوم، أجد نفسي أعود دومًا لنقطة واحدة: كيف أصبحت الحرب أمرًا عاديًا؟ كيف صار القتل يُبرر بلغة الحقوق، والدماء تُغسل بكلمات عن "الدفاع عن النفس"، واحتلال الأرض يتحول إلى "ضرورة أمنية"؟ ما الذي يجعل عقل الإنسان يقبل كل هذا، بل أحيانًا يدافع عنه دون أن يشعر بالتناقض؟

ليس السؤال عن الأحداث فقط، بل عن المعاني التي نُعطيها لها. كل شيء يدور حول الكلمات التي نختارها. حين تُقتل عائلة كاملة في غارة، يسأل المذيع: "هل كان الهدف مشروعًا؟" لا أحد يسأل: "هل كانت حياتهم تستحق أن تُحفظ؟" حين يُقصف حي سكني، لا تُذكر الأسماء، فقط رقم: خمسة قتلى، عشرة جرحى. وكأن الإنسان رقم، وكأن الوجع يمكن اختزاله في عدد.

ما أفكر فيه دومًا هو أن الخطر لا يكمن فقط في الطائرات والصواريخ، بل في اللغة التي تصف ما يحدث. حين يُقتل طفل في فلسطين ويُقال إنها "حادثة مؤسفة"، ثم يُقتل مئات الأطفال الآخرين وتبقى الكلمة ذاتها تُستخدم، نبدأ بفقدان الإحساس. تصبح اللغة غلافًا يُخفي الجريمة بدل أن يكشفها. وهنا، تبدأ الكارثة.

اللافت أن هناك شعوبًا وبلدانًا تعيش كما لو أن كل ما يجري خارج عنها، كأنها محصنة. أمريكا مثلًا، تصنع الخطاب وتفرضه. هي لا تحتاج لتبرير، بل فقط لإعلان. حين تقرر أن دولة ما خطرٌ على "النظام العالمي"، يُصبح هذا الخطر واقعًا، حتى قبل أن يُقدم أي دليل. حين تقرر أن جهة ما "إرهابية"، يُصبح كل من يُقتل منهم خارج حساب الإنسانية.

وإسرائيل، التي تكرر أنها "تدافع عن نفسها"، تفعل ذلك بالقوة، وبالتحالف، وبالإعلام، وحتى باللغة. لا أحد يسأل: من الذي يهدد مَن؟ من الذي يحتل أرض الآخر؟ بل حتى هذا السؤال ممنوع. يُنظر إليه كعدوان على "السردية المسموح بها".

الأخطر من كل هذا هو ما لا يُقال. هناك أشياء لم تعد تُذكر، كأنها غير موجودة. كأن وجود أمريكا كقوة فوق القانون الدولي أمر طبيعي، كأن موت المدنيين في غزة أمر "معتاد"، كأن الهيمنة الاقتصادية والعسكرية على العالم هي قدر، لا خيار. هذا الصمت ليس عاديًا، بل صُنع بعناية. إنه جزء من هندسة المعنى التي نعيش فيها اليوم.

لكن، وسط هذا الضجيج، يبقى السؤال في داخلي: لماذا نقبل أن تُمارَس القوة باسم القيم؟ لماذا نصدق أن من يملك القوة يملك الحق؟ وكيف صار الدفاع عن الحياة يُوصف بالإرهاب، بينما تدمير البيوت على من فيها يُوصف بـ"العملية الجراحية الدقيقة"؟

ما يجعلني أتمسك بالتفكير – رغم كل شيء – هو أنني لا أريد أن أفقد القدرة على الدهشة. لا أريد أن أعتبر الدم أمرًا طبيعيًا. لا أريد أن أرى القهر وأقول: "هذا يحدث منذ زمن، فلماذا نغضب؟" بل أريد أن أحتفظ بالقدرة على السؤال، لأن السؤال هو آخر ما يتبقى للإنسان حين تُنتزع منه كل أدوات التغيير.

العالم لا يحتاج فقط إلى تغيير السياسات، بل إلى تغيير الطريقة التي ننظر بها لما يحدث. أن نسمي الأشياء بأسمائها، أن نكشف ما يُخفيه الخطاب، أن نتوقف عن الاعتقاد بأن من يملك القوة يملك الحقيقة. ربما حينها فقط، يمكن أن يبدأ شيء جديد.

 

.


إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق