كتب الدكتور طلال أبوغزاله -
حين أعلن دونالد ترمب في حملته الانتخابية عن نيته "إعادة العظمة لأميركا"، بدا أن هذه العبارة ستترجم، في أحد أوجهها، إلى إعادة إحياء سياسات اقتصادية من زمن آخر، ومع دخوله البيت الأبيض في يناير 2025، لم يتأخر كثيراً في تنفيذ ما وعد به: فرض رسوم جمركية عالية على السلع المستوردة، وإطلاق ما يشبه الحرب التجارية المفتوحة على شركاء تقليديين للولايات المتحدة، من كندا والمكسيك إلى الصين والاتحاد الأوروبي.
شعارات ترمب براقة: حماية الوظائف، وتقليص العجز التجاري، وإنعاش الصناعة لكن الواقع الاقتصادي لا يرحم الشعارات، وسرعان ما تحولت الخطط الحمائية إلى صدامات تجارية متبادلة، أصابت الأسواق بالتوتر، وأربكت سلاسل الإمداد، وأضرت بالمزارعين الأمريكيين والصناعات التصديرية أكثر مما أفادتها، وبدا وكأننا نعيش نسخة محدثة من تجربة أمريكية قديمة، جرى اختبارها سابقاً... وفشلت.
تعود بي الذاكرة إلى ثلاثينيات القرن الماضي، حين وقّع الرئيس الجمهوري هربرت هوفر قانون سموت-هاولي، رداً على أزمة اقتصادية خانقة، يومها، حذر أكثر من ألف اقتصادي من تداعيات القرار، لكن القانون مضى في طريقه، وكانت النتيجة مأساوية: انهارت الصادرات الأمريكية، وردّت الدول بتعريفات انتقامية، وتعمّق الكساد الكبير بدل أن ينحسر، هل يذكّركم ذلك بشيء؟
ما فعله ترمب، من حيث الجوهر، لم يكن إلا تكراراً لذلك النمط ذاته: بناء جدران تجارية في عالم لم يعد يعترف بالحدود، والرهان على عزلة اقتصادية في زمن العولمة، وصحيح أن الفروق الزمنية والتقنية شاسعة بين 1930 و2025، لكن الآليات النفسية والاقتصادية التي تحرك الأسواق واللاعبين الدوليين لم تتغير كثيراً: إذا رفعت التعريفات، سيرد الآخرون بالمثل، وإذا أغلقت الأبواب، فلن تنتظر المنتجات الأميركية طويلاً على الرفوف.
النتائج لم تتأخر، من الصين إلى كندا، والاتحاد الأوروبي ردّت بإجراءات مماثلة، والمزارعون الأمريكيون بدأوا يفقدون أسواقهم، والمصانع تضررت من ارتفاع تكاليف المواد الخام، أما الرسالة التي وصلت إلى حلفاء واشنطن، فكانت أوضح من أن تُخفى: أمريكا أولاً... والباقي، فليدبر أمره.
التاريخ لا يكرر نفسه تماماً، لكنه غالباً ما يهمس لنا بذات العبر، تجربة هوفر علمتنا أن الانعزالية الاقتصادية لا تنقذ الأمم من الأزمات، بل تغرقها أعمق فيها، وتجربة ترمب، في صورتها الحديثة، تقدم برهاناً إضافياً على أن العالم اليوم أكثر ترابطاً من أن يُدار من خلال قرارات أحادية الجانب.
ربما آن الأوان لإعادة التفكير في شكل النظام التجاري العالمي، وتوزيع المكاسب بشكل أكثر عدالة، لكن الطريق إلى ذلك لا يمر عبر الجدران الجمركية ولا حروب الرسوم، بل عبر التعاون، والحوار، والإصلاحات المتبادلة.
وفي لحظة عالمية مضطربة، حيث يسهل السقوط في فخ السياسات الشعبوية، تبرز أهمية التعلّم من التاريخ، لا إنكاره لأن من لا يتعلم من دروس الكساد الكبير قد يعيد كتابته... بيده.
0 تعليق