في عصرٍ أصبحت فيه الشهادات مقياسًا للذكاء، والمعدلات عنوانًا للتميز، تعود إلينا قصة سرينيفاسا رامانوجان لتصفعنا بالحقيقة: أن العبقرية لا تُقاس بدرجات الامتحان، ولا تُحتضن دائمًا في قاعات الجامعات، بل قد تولد في الظل، وتنمو في الصمت، وتُزهر رغم التجاهل.
رامانوجان، الشاب الهندي الفقير، الذي لم يكمل دراسته الجامعية بسبب فقره وإهماله للمواد غير الرياضية، ترك للعالم إرثًا مذهلًا من النظريات والمعادلات التي لا تزال تُدرّس في أرقى المؤسسات العلمية. الرجل الذي لم يحصل على شهادة جامعية، تُكرم اليوم اسمه أعرق جامعات العالم.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل كان سيتألق لو وُلد في زماننا؟
لو وُلد رامانوجان اليوم، في ظل أنظمة تعليمية صارمة تعتمد التلقين، وتحاصر الطالب بالاختبارات الموحدة، لتم تصنيفه "طالبًا فاشلًا”، وربما لتم تهميشه بالكامل، لأنه لا يجيد حفظ التواريخ أو كتابة موضوع إنشائي تقليدي. واقعنا التعليمي الحالي يُقصي من لا ينسجم مع القالب، ويقتل الإبداع في مهده، إذ نقيّم الطلاب بناءً على مهاراتهم في اجتياز الامتحان، لا بناءً على قدرتهم على التفكير المختلف.
رامانوجان لم يكن ليلتحق بأي جامعة اليوم بدون شهادات معتمدة، ولم يكن ليُمنح منحة لأنه لا يملك سيرة ذاتية "مقننة”. ومع ذلك، كان يمتلك ما لا يدرّس: الحدس الرياضي، والموهبة الفطرية، والشغف النقي.
إن قصة رامانوجان ليست مجرد حكاية عن عبقري مدهش من الماضي، بل هي مرآة نقدية لما يعانيه التعليم المعاصر من انغلاق. لقد أطلقنا العنان للتقييمات الورقية، ونسينا أن بعض العقول تحتاج فضاءً مختلفًا كي تزدهر.
إن التعليم الحقيقي لا يجب أن يقيّد، بل يكتشف. لا يجب أن يُصنّف الطلاب، بل يُلهمهم. وما لم نتعلم من رامانوجان ونتوقف عن حصر الذكاء في أوراق الامتحانات، فسنستمر في دفن عباقرة المستقبل في فصول لا تراهم.
ربما في قرية نائية، أو حي شعبي مهمّش، هناك "رامانوجان” آخر ينتظر أن يؤمن به أحد. لكن التعليم كما نعرفه اليوم، لن يراه
0 تعليق