كتب أ. د. هاني الضمور *
في السنوات الأخيرة، تحولت أيام التخفيضات الكبرى مثل "الجمعة السوداء” و”الجمعة البيضاء” إلى ظاهرة اقتصادية واجتماعية تستقطب ملايين المستهلكين. تعج الأسواق والإعلانات التجارية بوعود بتخفيضات هائلة، لكن خلف هذه العروض المبهرة يبرز جدل متزايد حول مدى مصداقيتها وتأثيرها الحقيقي على سلوك المستهلكين واقتصادات الأسواق.
الأدلة العلمية تكشف أن العديد من التخفيضات التي تُعلن خلال هذه الفترات ما هي إلا أساليب تسويقية مضللة. دراسة نُشرت في مجلة التسويق الاستهلاكي أوضحت أن نحو 60% من التخفيضات المزعومة تعتمد على "التسعير المخادع”، حيث تُرفع الأسعار قبل فترة التخفيضات ليُظهر السعر المخفض وكأنه صفقة رابحة. هذا الأسلوب شائع في الأسواق ويُعرف في الأدبيات الاقتصادية بالتلاعب التسعيري، مما يضعف ثقة المستهلكين ويُعرضهم للاستغلال.
من الناحية النفسية، تعتمد هذه الفعاليات على استراتيجيات تستهدف العواطف أكثر من العقل. أظهرت أبحاث الدكتور دان أريلي أن عبارات مثل "العرض ينتهي قريباً” أو "الكمية محدودة” تعمل على تحفيز شعور الخوف من فوات الفرصة، مما يدفع المستهلكين لاتخاذ قرارات شراء اندفاعية وغير مدروسة. إلى جانب ذلك، كشفت دراسة نشرتها المجلة الأوروبية لإدارة الأعمال أن التسوق في هذه الفترات يزيد من احتمالية الوقوع في سلوك "الشراء القهري”، الذي يؤدي إلى إنفاق مفرط وغير مبرر، خاصة لدى الأسر ذات الدخل المتوسط والمنخفض.
اقتصادياً، يرى البعض أن هذه المناسبات تعزز الاستهلاك وتحفز النشاط الاقتصادي، لكنها ليست خالية من الآثار الجانبية السلبية. دراسة أجرتها جامعة هارفارد أكدت أن هذه الفعاليات قد تؤدي إلى اختلال في دورة الطلب، حيث يتركز الإنفاق في فترة زمنية قصيرة، ما يسبب ركوداً في المبيعات خلال الأشهر اللاحقة. كما أن الضغط المتزايد لتقديم عروض ضخمة يؤثر على أرباح الشركات، خصوصاً الصغيرة والمتوسطة، التي تجد نفسها في منافسة غير متكافئة مع العلامات التجارية الكبرى.
في ظل هذه المعطيات، تبرز الحاجة إلى تنظيم أكبر من قبل الجهات الرقابية لضمان شفافية الإعلانات ومنع التضليل. غياب قوانين صارمة يُتيح للشركات استغلال ضعف الوعي الاستهلاكي لتحقيق أرباح على حساب المستهلكين. وفي المقابل، يعاني العديد من المستهلكين من قلة الوعي، حيث تُظهر التقارير أن أكثر من 70% منهم لا يقارنون الأسعار أو يتحققون من مصداقية العروض قبل الشراء، مما يجعلهم فريسة سهلة لهذه الاستراتيجيات المضللة.
هذه الظاهرة، على الرغم من كونها فرصة لتوفير المال، تسلط الضوء على الحاجة لتوازن أكبر في العلاقة بين الشركات والمستهلكين. تحقيق هذا التوازن يتطلب سياسات تنظيمية أكثر صرامة وزيادة الوعي المجتمعي. فالشفافية في التسويق والوعي الاستهلاكي هما الطريق نحو استهلاك مسؤول ومستدام يحقق مصالح جميع الأطراف دون تضليل أو استغلال.
* الكاتب استاذ التسويق الدولي في الجامعة الاردنية
0 تعليق