عامان من القتال عندما اشتعلت الحرب أو الفتنة الأهلية بين الجيش السوداني وما تدعى بقوات الدعم السريع في الخرطوم بتاريخ 15 نيسان 2023، حرب بين حليفين عسكريين، تقاسما كثيراً من السلطة والامتيازات لسنين، وبعد أن تمت الإطاحة بالحكومة الإصلاحية المدنية في تشرين الأول للعام 2021، فقد دبّ الخلاف بين قائد قوات الدعم السريع محمد دقلو المعروف بحميدتي، الذي طالب برئاسة الدولة واعتباره الأحق بها، من جنرالات الجيش الآخرين. فيما يرى جنرالات الجيش أنهم الأجدر بالقيادة والرئاسة، وهذه المعطيات لم تأت من فراغ، بل هناك اعتبارات عرقية وقبلية وإثنية، فالسودان بلد كان شاسع الأطراف الممتدة على مساحات واسعة في شمال شرق إفريقيا، وهو من أكثر البلدان تنوّعاً ثقافياً وعرقياً حيث يعيش فيه أكثر من خمسين مليون إنسان. وفيما أن معظم قيادات الجيش السوداني من عرب وادي النيل، فإن الجيش يضم جنوداً من معظم أنحاء البلاد، أما قوات الدعم السريع فمعظم جنودها من القبائل العربية في منطقة دارفور مع وجود عنصرية تزعم بتفوّق أيديولوجي رافضين وجود القبائل ذات الأصل الإفريقي أو العربي ممن يرون فيهم أدنى مرتبة.
لقد دمرت الحرب الطاحنة الخرطوم ومدن كثيرة. الحرب التي لا حدود فارقة بين الطرفين، ولا رغبة حقيقية لدى الشعب بمواصلتها، حيث أبدى الشسعب السوداني رغبته في إقامة دولة ديمقراطية مدنية تتسع لجميع مكونات الشعب السوداني دون تفرقة أو تمييز بينهم. إنها حرب على الشعب نفسه بقدر ما هي صراع لقوى وأعراق وقبائل أقحمت فيها سواء بمحض إرادتها أو رغماً عنها.
في الأرقام يجري الحديث عن 150 ألف مدني لقوا حتفهم، وأن ما يقارب 25 مليون سوداني يواجهون الجوع وانعدام الأمن، فيما تتحدث المصادر عن 9 ملايين شخص يعيشون حالة المجاعة أو شبه المجاعة، وهناك 15 مليون سوداني فرّوا من بيوتهم وقراهم تاركين السودان كلاجئين هرباً من الحرب، أي أن واحد من كل ثلاثة سودانيين أصبح لاجئاً، حيث الملايين لجأوا إلى مصر ومئات الآلاف إلى ليبيا وتشاد وأثيوبيا وجنوب السودان، وأن نسبة 80% من أنظمة الصحة والرعاية أصبحت خارج الخدمة ومعطّلة، وأن 19 مليون طفل لا يستطيعون الالتحاق بالتعليم بعد إغلاق 90% من المدارس. أرقام مفزعة وغير معهودة أو مسبوقة تنذر بحجم الكارثة التي يعيشها السودان في ظل وتحت وقع حرب عبثية لا طائل من ورائها.
يبدو أن إنجاز نصر محقق لأي طرفٍ بعيد المنال، في ظل التداخل والتشابك فلا مجال للفصل الجغرافي أو الديمغرافي بين الطرفين، ولم يكن غريباً سماع الأخبار عن تحرير جسر أو شارع أو مبنى أو حديقة أو مصنع أو مزرعة هنا وهناك، فلا فاصل بين القوات، وهي ليست حرباً بالمفهوم العسكري التقليدي، وإنما هي على شاكلة حرب المدن والعصابات التي غالباً ما يكون ضحاياها من المدنيين وتكون الخسائر الكبيرة في مقدرات وصفوف المواطنين المسالمين.
إنها حرب منسية بدأت بين حلفاء أغرتهم القيادة والمناصب وأنستهم واقع وبؤس الحال الشعبي. حرب تجاهلها العالم وتغاضى عن الكارثة وما ترتب عنها من ويلات، ولم تنجح حتى الآن الجهود الدبلوماسية على شحّها في وقف إطلاق النار والعودة إلى طاولة المفاوضات، ولم تنجح أي من الأطراف في تحقيق النصر الناجز. ومع تجميد عمل وكالة التنمية الأمريكية حسب قرارات ترامب الأخيرة، فقد تفاقمت الأوضاع إلى أسوأ حالاتها من عدم تلبية أدنى متطلبات البقاء وإغلاق 70% من مطابخ الطوارئ الغذائية التي كانت بمثابة المنقذ الأخير من الموت جوعاً.
ليس من السهل الحديث المرسل عما يجري من أهوال في السودان، فالبلد تعجّ بالتناقضات والتقاطعات والتداخلات الاجتماعية والسياسية التي تغلفها القبلية والعرقية والمصالح الشخصية والخارجية. لهذا لا يمكن الحكم السليم على الواقع السوداني دون تحليل حصيف للواقع المجتمعي بجميع أطرافه.
ربما لم تصل السودان إلى حالة الدولة الفاشلة والعاجزة، لكنها اجتازت الفشل والعجز، السودان التي تعلمنا عنها بأنها سلّة الغذاء العربية، لتصبح الدولة التي لا تمتلك أية مقومات. ولا تنتظر أي دعم ولا يريد أحد أن يقدم للسودان شيئاً. واقع عربي موغل في الوجع والتلاشي.
0 تعليق