تواجه أوروبا خطراً وجودياً كبيراً منذ أربعينات القرن الماضي، ومع دخول الحرب بين روسيا وأوكرانيا في الوقت الحالي عامها الرابع، فإن التحولات في سياسة إدارة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، تشير إلى أن أوروبا قد تواجه حرباً بينها وبين روسيا دون دعم من الولايات المتحدة، حيث إن واشنطن تتفاوض الآن على سلام محتمل مباشرة مع موسكو وكييف، دون مشاركة الأوروبيين. كما يبدو أن أميركا مستعدة للتوصل إلى اتفاق يعتمد إلى حد كبير على شروط روسيا.
وإضافة إلى ذلك، تساور أوروبا، الشكوك بشأن التزامات واشنطن بالمادة الخامسة من ميثاق حلف شمال الأطلسي (الناتو) الذي ينص على الدفاع عن أوروبا في حال تعرضها لهجوم. ويبدو أن أوروبا في وضع لا تستطيع قواتها المسلحة التعامل معه.
ويمكن للأوروبيين، بالطبع، إلقاء اللوم في هذا التطور بالكامل على الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، ونظيره ترامب، وهذا ما يفعله كثير منهم. ولكن في نهاية المطاف، يجب على الأوروبيين الاعتراف بأنهم يدفعون الآن ثمن جهلهم الجيوسياسي.
ويزخر التاريخ بأمثلة لقادة غضّوا الطرف عن الجغرافيا السياسية، الأمر الذي جعل دولهم تدفع ثمناً غالياً في نهاية المطاف، فقد تجاهل الإمبراطور الفرنسي، نابليون بونابرت، تحديات الجغرافيا عندما غزا روسيا عام 1812، حيث أسهمت الخسائر الفادحة التي تكبدها جيشه هناك في هزيمته النهائية في معركة «واترلو»، بعد ثلاث سنوات.
وارتكبت ألمانيا النازية خطأً مماثلاً، ما أدى إلى سقوطها عندما غزت الاتحاد السوفييتي عام 1941، معرضةً نفسها لحرب ثنائية.
وعلى مستوى الاستراتيجية الكبرى، ارتكبت سلالة «مينغ» الصينية أحد أخطر الأخطاء الجيوسياسية في التاريخ عندما تخلّت عن الملاحة البحرية في منتصف القرن الـ15. فقد بنت الصين في القرنين الـ14 وأوائل القرن الـ15، أقوى وأعظم أسطول شهده العالم على الإطلاق، مسيطرة بالكامل على طرق التجارة في المحيط الهندي وغرب المحيط الهادئ، ولكن ابتداءً من ثلاثينات القرن الـ15، ومع ازدياد مهارات بناء السفن والملاحة الأوروبية، قلّص الأباطرة الصينيون دعمهم لأحواض بناء السفن، وحظروا معظم التجارة البحرية، ونتيجة لذلك هيمنت القوات البحرية الأوروبية على المياه الآسيوية على مدى القرون الخمسة التالية. وبالمثل لم تستفد أوروبا من هذه الأمثلة، وتجاهلت ثلاثة تطورات جيوسياسية بارزة يمكن أن ندرجها فيما يلي:
1- غضّت أوروبا الطرف إلى حد كبير عن عودة روسيا كقوة إمبريالية، وهو التطور الجيوسياسي الأهم والأبعد أثراً على أوروبا بشكل مباشر منذ نهاية الحرب الباردة. ومثل أباطرة، مينغ الذين تخلّصوا من أسطولهم البحري، تخلى الأوروبيون حرفياً عن الجغرافيا السياسية، فعلى مدى عقدين تقريباً، طوّروا هيكلاً عسكرياً أكثر ملاءمة لمحاربة المتمردين في جبال أفغانستان، وتخويف القراصنة في خليج عدن للدفاع عن الوطن الأوروبي. ويبدو أن أوروبا صارت تتخلى عن الجغرافيا السياسية وتتجاهل تنامي نفوذ بوتين لسبب بسيط يتمثل في الضمان الأمني الذي تقدمه لها الولايات المتحدة.
2- لم تدرك أوروبا، المنطق الجيوسياسي لصعود الصين، والذي سيُجبر الولايات المتحدة في نهاية المطاف على إعادة توازن وضعها العسكري تجاه منطقة المحيطين الهندي والهادئ. ففي عام 2011، عندما أعلنت إدارة الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، لأول مرة «التوجه الأميركي نحو آسيا»، كانت دولتان أوروبيتان فقط ملتزمتين بتعهد «الناتو» بإنفاق ما لا يقل عن 2% من الناتج المحلي الإجمالي على الدفاع.
وبعد عقد من الزمان، في عام 2021، لم تتمكن سوى أربع دول أوروبية إضافية من أعضاء «الناتو» من بلوغ هذه العتبة.
وأحد الأسباب المهمة لهذا التقصير في الاستجابة هو تعليق الولايات المتحدة الواضح للتوجه نحو آسيا، عندما نقلت قواتها إلى أوروبا الشرقية وسفنها الحربية إلى المحيط الأطلسي، رداً على سيطرة روسيا عام 2014 على شبه جزيرة القرم التي تتنازعها مع أوكرانيا. وفي ذلك الوقت، بدا أن العديد من الأشخاص الذين تحدثت أنا معهم في المجتمع الاستراتيجي الأوروبي يعتقدون أن واشنطن قد عادت بشكل دائم إلى أوروبا. ومع ذلك، تجاهلوا أن إعادة التوازن الأميركي نحو آسيا مدفوع بأقوى القوى وأكثرها ثباتاً في العلاقات الدولية (توازن القوى والخوف من توسع الهيمنة)، إذ بلغ الإنفاق الدفاعي الصيني 309 مليارات دولار في عام 2023، وهو ما يفوق إنفاق بقية دول شرق آسيا وجنوبها مجتمعة، ما يعني أن الصين قادرة على الهيمنة على المنطقة بسهولة، إذا سحبت الولايات المتحدة وجودها العسكري هناك.
الوضع في أوروبا مختلف تماماً، فالاقتصاد الروسي أصغر من الاقتصاد الإيطالي، من حيث الناتج المحلي الإجمالي الاسمي، ويفتقر إلى قدرات تكنولوجية وتصنيعية أساسية، لهذا فإن أي تقصير من الأوروبيين عن ردع روسيا واحتوائها يعود بالكامل إلى عدم رغبة القادة الأوروبيين في ذلك في الماضي والحاضر. ويُفسر هذا الاختلاف في موازين القوى الآسيوية والأوروبية مغازلة واشنطن المستمرة للكرملين، حيث إن تسوية الحرب الروسية الأوكرانية ستُمكّن من إعادة توازن عسكري أميركي أكثر شمولاً في آسيا.
3- التطور الجيوسياسي الثالث الذي تجاهلته أوروبا على مسؤوليتها الخاصة، هو الشراكة الصينية الروسية، ومنطقها الاستراتيجي المتأصل، والقيمة التي يُوليها لها كلا البلدين. ومكّن الصعود الاقتصادي للصين، روسيا من تنويع علاقاتها التجارية وتقليل اعتمادها على أوروبا. وقد كان هذا مهماً بشكل خاص لروسيا منذ عام 2014، عندما فرض الغرب عقوبات اقتصادية ومالية لأول مرة رداً على سيطرة روسيا على شبه جزيرة القرم.
علاوة على ذلك، ورغم كونها الشريك الأصغر، تُدرك روسيا، انشغال الصين بمنافستها مع الولايات المتحدة في المحيط الهادئ، ما يُخفف من حدة نظرة موسكو للتهديد الذي تُمثله بكين. وفي الواقع، ما كانت روسيا لتشن حرباً شاملة على أوكرانيا في ظل وجود الصين غير الصديقة على جناحها الآسيوي.
فبالنسبة للصين، تُعزى العلاقات الجيدة مع روسيا بشكل أكبر إلى الاعتبارات الجيوسياسية واعتبارات توازن القوى، وأن وجود موسكو إلى جانبها قد يمنح بكين أفضلية في تنافسها مع واشنطن كقوى عظمى.
باختصار، كان ينبغي أن تُوفر عودة روسيا إلى الإمبريالية، وتحول الولايات المتحدة عن آسيا، والشراكة الصينية الروسية، للقادة الأوروبيين أسباباً وجيهة لإعادة النظر في الترتيبات الأمنية لقارتهم، لكنهم لم يفعلوا. لقد اعتدنا اعتبار أن الأوروبيين يعيشون في عطلة من التاريخ، لدرجة أننا لا نُفاجأ بجهلهم بالشؤون الجيوسياسية كما ينبغي.
في نهاية المطاف، كانت القوى الأوروبية الكبرى السابقة بارعة في الاستراتيجية.
وتعتمد مدرسة «الواقعية» في نظرية العلاقات الدولية، بتركيزها القوي على توازن القوى، إلى حد كبير على دراسات القوى العظمى الأوروبية، ففي أوج ازدهار الإمبراطورية البريطانية عام 1848، أعلن وزير الخارجية آنذاك، اللورد بالمرستون، في مجلس العموم البريطاني، تصريحاً شهيراً: «ليس لدينا حلفاء أبديون، وليس لدينا أعداء أبديون، مصالحنا أبدية ودائمة، ومن واجبنا اتباعها». وكان من المفترض أن تفيد نصيحة بالمرستون، القادة الأوروبيين في العقود الأخيرة.
و«العمى» الاستراتيجي الأوروبي أسبابه متعددة، منها افتقار الطبقة القيادية إلى الرؤية والحكمة. لكنني أودّ التأكيد على تفسيرين آخرين. أولهما: هو أن الدول الأوروبية انتقلت من كونها رائدة في الاستراتيجية، إلى كونها تابعة لاستراتيجية الولايات المتحدة. ويُمكن القول هذه هي الحال منذ أزمة قناة السويس عام 1956، عندما أجبرت الولايات المتحدة، بريطانيا وفرنسا على التراجع عن محاولتهما غزو مصر والسيطرة على قناة السويس.
وفي حين أبدت الحكومات الأوروبية معارضتها لمختلف السياسات الأميركية في السنوات التي تلت ذلك، مثل الغزو الأميركي للعراق عام 2003، إلا أنها ظلت دولاً ثانوية في تحالفها مع قوة عظمى. ولذلك، انصبّ اهتمامها على بناء تحالفات متينة مع واشنطن، أكثر من اهتمامها بتطوير قدراتها الاستراتيجية الخاصة.
ومع انهيار الاتحاد السوفييتي، آمن الأوروبيون إيماناً راسخاً بأن الظروف قد تهيأت أخيراً لفكرة الفيلسوف الألماني، إيمانويل كنت، عن السلام الأبدي القائم على الديمقراطية والتجارة الحرة والمؤسسات التي من شأنها كبح جماح سياسات القوة.
وعندما أصبحت الليبرالية ليست مجرد نموذج سائد، بل ضرورة أخلاقية، غالباً ما يتم تجاهل دعاة الواقعية الجيوسياسية، بتركيزهم على توازن القوى، فأصبحوا موضع سخرية، كما حدث عندما سخر المسؤولون الألمان من ترامب الذي حذرهم في عام 2018، كما حذر آخرون من قبل، من أن الاعتماد على روسيا في مجال الطاقة، خطأ استراتيجي خطر.
*جو إنجي بيكيفولد
*زميل بارز في الشؤون الصينية في المعهد النرويجي للدراسات الدفاعية.
عن «الفورين بوليسي»
. التاريخ يزخر بأمثلة لقادة غضّوا الطرف عن الجغرافيا السياسية، الأمر الذي جعل دولهم تدفع ثمناً غالياً في نهاية المطاف.
0 تعليق