عقدة المثقف العربي وتعالي الهوية الثقافية - عرب فايف

0 تعليق ارسل طباعة

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
عقدة المثقف العربي وتعالي الهوية الثقافية - عرب فايف, اليوم الأحد 23 مارس 2025 12:17 صباحاً

تُشكِّل الثقافة في الوجدان العربي ركيزةً لهويةٍ تتجاوز حدود المناهج الدراسية، فهي نسيجٌ من التفاعل اليومي مع المعارف الدنيوية والدينية، تُختَبر بالعقل والمنطق في الأولى، وبالفطرة والروح في الثانية.

لكنّ مفهوم «المثقف» في العالم العربي تحوّل إلى سلطةٍ رمزيةٍ يرفعها البعض فوق النقد، فيمارس دور الحَكَم الذي يوزّع التصويب والخطأ، رغم أن معرفته ليست سوى صدى لأفكار الآخرين، دون إضافةٍ جوهرية أو إبداعٍ يُذكر.

فكيف تشكّلت هذه العقدة، وما مظاهرها وتداعياتها؟

من الثقافة كتجربة

إلى الثقافة كسلطة

ليست الثقافة مجرّد حصيلة معلوماتية، بل هي عملية تفاعلية مع الحياة، تُبنى عبر التساؤل والنقد والتجربة.

لكنّ بعض المثقفين العرب حوّلوها إلى «شهادةٍ» اجتماعيةٍ تمنحهم امتياز التعالي، فباتوا يُصدرون الأحكام من برجٍ عاجي، وكأنهم حرّاس الحقيقة المطلقة.

هذا التعالي لا ينفصل عن إشكالية تاريخية، فالمثقف العربي وُلد في بيئةٍ استعماريةٍ عزّزت لديه عقدة النقص، فحاول تعويضها بتبني خطابٍ دفاعيٍّ يتّكئ على استنساخ الأفكار الغربية أو التمسك بالتراث دون تمحيص، مما ولّد تناقضاً بين الانفتاح الظاهري والانغلاق الفكري.

الاستيراد الفكري

وغياب الإبداع

من مفارقات هذه العقدة أن المثقفَ يدّعي الأصالة بينما تُختزل ثقافته في نقل أفكارٍ غريبةٍ عن سياقه، أو اجترار تراثٍ بلا نقد.

فهو كـ«وسيطٍ» بين المعرفة والجمهور، لا يملك إسهاماً إبداعياً حتى في أبسط الابتكارات المادية، فثقافته تظلّ نظريةً تُقاس بعدد الكتب المُقتبسة، لا بتأثيرها في الواقع.

هذا النمط يُنتج مثقفاً استهلاكياً، يعيد تدوير الخطابات دون أن يطرح رؤيةً جديدةً تُعالج إشكاليات مجتمعه.

تتعقد العقدة حين تتداخل العلوم الدينية والدنيوية، فبعض المثقفين يتعاملون مع الدين كمنظومةٍ مغلقةٍ، يستخدمونها لإضفاء الشرعية على خطابهم، بينما يتبنّى آخرون نظرياتٍ علمانيةٍ بلا مراعاةٍ للخصوصية الثقافية. في الحالتين، تُختزل الثقافة إلى أداةٍ للهيمنة الفكرية، حيث يُعلِي المثقف من رأسه، ويُهمِّش أيَّ صوتٍ مخالفٍ تحت شعاراتٍ مثل «التقدم» أو «الحفاظ على الهوية»، دون حوارٍ حقيقيٍّ يمتزج فيه العقل بالقلب، والمنطق بالفطرة.

لا يقتصر تأثير هذه العقدة على المثقف نفسه، بل يمتد ليشكّل فجوةً بينه وبين المجتمع.

فبينما يحتاج الواقع العربي إلى مثقفٍ منخرطٍ في هموم الناس، يساهم في حلّ مشكلات التعليم والاقتصاد والفكر، نجد الكثيرين منهم منغمسين في سجالاتٍ نظريةٍ لا تلامس الواقع. هذا التعالي يُغذّي النظرة الدونية للعامة، ويُعمّق أزمة الثقة بين الطرفين، فيتحوّل المثقف إلى كائنٍ غريبٍ في وطنه، بينما يبحث المجتمع عن حلوله خارج صالونات التنظير.

لكسر هذه الدائرة، يحتاج المثقف العربي إلى مراجعةٍ شاملةٍ لدوره، فالثقافة الحقيقية ليست امتلاكاً للمعلومات، بل هي انفتاحٌ دائمٌ على التعلم، ونقدٌ ذاتيٌّ، وإيمانٌ بأن الحكمة يمكن أن تأتي من أبسط الناس.

عليه أن يتحوّل من «ناقلٍ» للمعارف إلى «مُنتجٍ» لها، يبتكر حلولاً ويشارك في بناء الواقع.

كما أن تطوير النظام التعليمي ليعزّز التفكير النقدي بدلاً من الحفظ، وخلق مساحاتٍ للحوار بين التخصصات الدينية والدنيوية، يمكن أن يسهم في إنضاج ثقافةٍ أكثر تواضعاً وإنتاجيةً.

لن تتحرر الثقافة العربية من عقدة التعالي إلا بالاعتراف بأنها جهدٌ تراكميٌّ جماعي، لا ملكية فردية، وأن المثقف الحقيقي ليس من يمتلك الإجابات الجاهزة، بل من يطرح الأسئلة المحرّضة للعقل والتفكير.

أخبار ذات صلة

 

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق