كتب ا. د. هاني الضمور -
في خطوة أثارت جدلاً واسعاً، أصدرت وزارة التربية والتعليم قراراً يقضي بتأنيث التعليم في الصفوف من الأول إلى السادس الابتدائي، وذلك عبر نقل الطلبة الذكور إلى مدارس الإناث تحت إشراف معلمات فقط. وبينما برّرت الجهات الرسمية القرار بأهداف تنظيمية وتربوية، إلا أن انعكاساته النفسية والتربوية على تكوين الطفل الذكر تفتح باباً واسعاً للنقد العلمي والاجتماعي.
الطفل الذكر، في سنواته الأولى، لا يكتفي بتلقي المعرفة من المعلم، بل يتعلم من بيئته الاجتماعية والسلوكية. وهي بيئة، إن افتقرت إلى النماذج الذكورية المتوازنة، قد تؤثر سلباً على بناء هويته الجندرية وشخصيته النفسية. فالمدرسة ليست مجرد مؤسسة تعليمية، بل فضاء تشكّل فيه الملامح الأولى للرجولة والانضباط وتحمل المسؤولية.
في بيئة مؤنثة بالكامل، حيث المعلمات والطالبات يشكلن المشهد العام، يجد الطفل الذكر نفسه في معزل نفسي واجتماعي عن عناصر التوازن الجندري. فهو لا يرى من يمثله في السلوك، ولا يسمع صوتاً شبيهاً بصوته، ولا يواجه صراعاً سلوكياً ينمّي قدرته على المواجهة والانضباط. بل يعيش في فضاء قد يُكرّس فيه السلوك الناعم والانفعالات العاطفية، على حساب قيم الحزم والتحمّل والمغامرة.
وهنا تبرز المخاوف: هل ننتج من هذا القرار جيلاً أقل خشونة، نعم، لكنه أيضاً أقل صلابة؟ أقل عدوانية، لكن ربما أقل جرأة؟ وهل نؤسس لمنظومة تربوية تفصل الطفل الذكر عن واقعه النفسي الطبيعي بدعوى التنظيم؟!
لا أحد ينكر أهمية التوازن في البيئة التعليمية، ولا حاجة الطفل للحنان والاحتواء، لكن الحنان وحده لا يبني شخصية متكاملة. فالذكور بحاجة إلى القدوة الذكورية كما الإناث بحاجة إلى القدوة الأنثوية. وعزل الذكور في بيئة أنثوية لا يُعَدّ إنصافاً لهم، بل قد يكون إخلالاً بمنظومة التكوين التربوي السليم.
العلم التربوي يؤكد أن الهويات الجندرية لا تتكوّن صدفة، بل تنشأ من تفاعل معقد بين البيئة، والخبرة، والنموذج. وغياب هذه العناصر في بيئة تأنيثية شاملة قد يؤدي إلى تشوّش في الإدراك الذاتي لدى الطفل، وإلى هشاشة في سلوكيات الرجولة لاحقاً.
إن المطلوب اليوم ليس الفصل أو التحييد، بل التوازن. مدرسة فيها المعلم والمعلمة، النموذج الحازم والحاني، الصراع والانضباط، التحدي والرعاية. هذا ما يُخرج جيلاً سليماً، لا يُفرط في الخشونة ولا يغرق في النعومة. جيلاً يحمل صفات الرجولة المعنوية: الثقة، الحزم، التحمل، دون أن يُجرد من الرحمة واللين.
وفي الختام، فإن القرار ـ رغم حسن النوايا ـ يفتقر إلى دراسة تربوية عميقة لتأثيره على بناء الهوية الذكورية. وإذا أردنا أن نبني جيلاً متوازناً، فعلينا أن نعيد النظر في بيئته التربوية الأولى، لا أن نفرض عليه نمطاً أحاديّ اللون، تحت مسمى الإصلاح.
0 تعليق