كتب كمال ميرزا -
في غمرة الإلهاء والإلهاء والمزيد من الإلهاء الذي يُغرق الفضاء التواصليّ حاليّاً للهروب من استحقاقات الميدان، وللتهرّب من حقيقة تخاذل الأنظمة والنخب والشعوب العربيّة على حدّ سواء تجاه حرب "الإبادة والتهجير" المُمنهجة التي يشنّها العدو الصهيو-أمريكيّ ضدّ أهالي غزّة ومخيّمات الضفة..
تداولَ الناس على مدار اليومين الماضيين بشكل محموم تسجيلاً صوتيّاً يجمع الرئيس المصري الراحل "جمال عبد الناصر" بالرئيس الليبيّ المغدور "معمّر القذافي" يعود لسنة 1970، أي بعد نكسة 1967، وبعد موافقة "عبد الناصر" على "مبادرة روجرز" لوقف إطلاق النار فيما عُرف بـ "حرب الاستنزاف" مع العدو الصهيونيّ.
التسجيل، في الجزء المنشور منه، وفي تعقيب غالبيّة المعلّقين عليه، خاصة من الأبواق الإعلامية المُقرّبة للسلطة في العالم العربي، وكتّاب التدخّل السريع، والذباب الإلكترونيّ الطوعيّ.. يحاول أن يُظهر "عبد الناصر" بمظهر المتخاذل في تحرير فلسطين، والساعي "من تحت لتحت" للتسوية والسلام بخلاف مواقفه المُعلنة، والمُستاء من موقف الأنظمة العربيّة والتنظيمات الفلسطينيّة التي "تزاود عليه" وتطالبه بالقتال حتى آخر رمق.
بعيداً عن التوقيت المُغرِض لإطلاق هذا التسجيل للتداول، أو لوضعه في بؤرة الضوء والتركيز والاهتمام..
وبعيداً عن التعاطي الدعائيّ المؤدلَج مع هذا التسجيل، واجتزائه من سياقه، وإغفال بعض الحقائق على الأرض مثل أنّ "عبد الناصر" في ذلك الوقت كان يُعيد بناء قوّة الجيش المصري بعد نكسة الـ 67 من أجل المواجهة واستعادة سيناء، وأنّه استغل "مبادرة روجرز" ووقف إطلاق النار من أجل إنشاء "جدار الصواريخ" على الجبهة الذي كان له فيما بعد دور حاسم في حرب العبور سنة 73..
بعيداً عن هذا وذاك، فإنّ الذي يستثير الاستغراب والقرف في آن معاً هو المنطق العجيب الكامن وراء كلام الذين يحاولون توظيف هذا التسجيل وتجييره:
لأنّ "عبد الناصر" كان متخاذلاً.. فـ "عادي" و"طبيعي" و"مشروع" أن تكون الأنظمة العربيّة الحاليّة متخاذلة هي أيضاً!
لأنّ "عبد الناصر" كان متناقضاً ولا يعني ما يقوله.. فعادي وطبيعي ومشروع أن تكون الأنظمة الحاليّة متناقضة ولا تعني ما تقوله هي أيضاً!
لأنّ "عبد الناصر" كان يسعي فعليّاً نحو تسوية وسلام (وبالضرورة تطبيع).. فعادي وطبيعي ومشروع أن يلهث الجميع حاليّاً نحو التسوية والسلام والتطبيع!
لو أردتُ هنا أن أدافع عن "عبد الناصر" لقلتُ: إذا كان "عبد الناصر" يسعى إلى التسوية والسلام، فعلي الأقل كان يسعى إليهما من موقع القوّة والنديّة، وبشروط متوازنة ومُنصفة.. وليس من موقع الضعف والتبعيّة والتسليم والقبول بأي ثمن!
ولكنّني هنا لستُ بصدد الدفاع عن "عبد الناصر"، بل سأذهب في الاتجاه المعاكس تماماً:
ماذا لو كان "عبد الناصر" أكبر كذّاب في التاريخ؟! ماذا لو كان "عبد الناصر" أكبر خائن ومتخاذل في التاريخ؟! ماذا لو كان "عبد الناصر" عميلاً للموساد أو الـ CIA أو الـ MI6 أو ثلاثتها مجتمعة ونحن انخدعنا به؟!
هل سيغيّر هذا شيئاً؟ الإجابة ببساطة لا!
هذا الكلام الافتراضيّ لو صحَّ ووقع فعلاً فإنّه لن يُدينَ أحداً غير "عبد الناصر"، وهو لا يصلح لأن يتّخذه أيّ طرف آخر حُجّةً أو ذريعةً أو مُبرّراً للإتيان بمثل هذه الأفعال!
فلسطين هي الحُجّة على "عبد الناصر" (وغير عبد الناصر).. وليس "عبد الناصر" حُجّةً على فلسطين!
والمقاومة والتحرير هما حُجّة على "عبد الناصر".. وليس "عبد الناصر" حُجّةً على المقاومة والتحرير!
والله وشرع الله حُجّة على "عبد الناصر".. وليس "عبد الناصر" حُجّة عليهما.. وهكذا دواليك!
((يُعرف الرجال بالحقّ.. ولا يُعرف الحقّ بالرجال))، هذا هو المبدأ الثابت والراسخ ـ يُفترَض ـ المُستمدّ من عقيدتنا وشرعنا وتراثنا وثقافتنا!
بالنسبة لي شخصيّاً لستُ من محبي "عبد الناصر" (أو أي شخص آخر) حدّ العبادة والتقديس، ولستُ من كارهيه حدّ الشيطنة والتدنيس!
"عبد الناصر" إنسان شأنه شأن أي إنسان آخر أفضى لما قدّم، وزعيم راحل شأنه شأن أي زعيمٍ راحلٍ آخر له ما له وعليه ما عليه.
العتب واللوم فقط علينا نحن الذين ما نزال على قيد الحياة!
شخصيّاً، لا أستطيع أن أتفهّم أو أتقبّل أو أهضم بعض تصرفات وقرارات "عبد الناصر"، مثل الطريقة غير المسؤولة التي تعامل بها مع قيادة الجيش، وإيلائه الأمر إلى "ولدنة" و"أغرار" بالمنطق العسكريّ، الأمر الذي كان له دور أساسيّ في نكسة الـ 67..
أو الطريقة التي أدار بها ملف "الإصلاح الزراعيّ" رغم جمال العنوان ونُبْل الغاية، والتي ألحقتْ دماراً كبيراً بالقاعدة الإنتاجيّة الزراعيّة في مصر واكتفاء مصر الذاتيّ..
أو إخفاقه في إدارة ملف الوحدة مع سوريا..
أو تورّطه غير المبرّر وغير المحسوب في محاربة اليمن..
أو انقلابه على شركاء الثورة من ضباط (وفي مقدّمتهم الرئيس محمد نجيب) وإسلاميّين وشيوعيّين، والذين لولاهم لما لقيت الثورة كلّ هذا الرواج والقبول والتأييد في الشارع..
أو إعدامه مُفكّراً مثل "سيّد قطب" قد تتفق أو تختلف معه، ولكنّك لا تستطيع أن تشكّك في وجاهة طروحاته وعمق استبصاراته ونبرة الصدق التي تقطر من بين سطور كتاباته..
ولكن في المقابل يُسجّل لـ "عبد الناصر" العديد من الإنجازات والمآثر التي يمكن أن لأي مأثرة منها في سياقات أخرى أن تكون شفيعةً لصاحبها..
فهناك مثلاً مجانيّة التعليم التي رفدتْ مصر والوطن العربي كلّه بطبقة كاملة من "المثقّفين" و"الانتلجنسيا" الذين كانت هناك حاجّة ملحّة لهم وظمأ شديد إليهم..
وهناك القاعدة الإنتاجيّة الصناعيّة التي أرساها (ثمّ قام انفتاح السادات ومبارك بتقويضها وتفكيكها وخصخصتها)..
وقبل هذا وذاك هناك القرار الأهم في حياة "عبد الناصر"، والذي لو لم يتخذ في حياته كقائد وزعيم قراراً غيره لكفاه: تأميم قناة السويس.. هذا القرار الذي ما يزال حتى هذه اللحظة غصّة في حلق العدو تجعله يحقد على "عبد الناصر" في قبره، وشوكة في خاصرة المشروع الإستعماريّ الرأسماليّ الغربيّ ما يزال أثرها وتداعياتها ماثلةً وحاضرةً ومتفاعلةً حتى هذه اللحظة.
لا نريد (ولا نتوقّع) من نابشي تسجيل "عبد الناصر" والأنظمة العربيّة الحاليّة تحرير فلسطين..
ولا نريد منهم إعلان التعبئة العامّة والنفير العام..
ولا نريد منهم إلغاء معاهداتهم واتفاقياتهم وعلاقاتهم وتبادلهم مع الكيان الصهيونيّ وداعميه وأعوانه..
ولا نريد منهم الاعتراف رسميّاً بفصائل المقاومة كحركات تحرّر وطنيّ مشروعة..
يكفينا منهم لو أخذوا من إرث "عبد الناصر" هذه فقط: التأميم.. وقاموا باستعادة ثروات ومُقدّرات وموارد أوطانهم ودولهم التي سبق التفريط بها، والتنازل عنها، وبيعها، والسمسرة عليها، وخصخصتها لصالح العدو والغريب والأجنبيّ (والحبل على الجرار)!
بالعودة إلى التسجيل وسياسة الإلهاء والتشتيت، كيف تعرف تهافت موقف الأنظمة العربيّة وزبانيتها وأبواقها؟ عندما تجدهم يبحثون تحت أظافرهم، وينبشون أوراقاً عتيقةً، وينكشون بيأس تواريخ وهفوات وسقطات وضغائن وأحقاد قديمة.. كلّ ذلك لكي يبرروا تخاذل وتواطؤ وانسحاق مواقفهم الحاليّة!
0 تعليق