مع احترامي للأفنديّة والبكوات والباشاوات، وأصحاب السعادة والعطوفة والمعالي.. إلّا أنّ سرّ الأردن الوطن أنّه بلد بناه وشدّ أزره "ملح الأرض" من "الأفراد"، عسكراً ومعلمين وموظفين و"حرّاثين"، والذين خدموه ورعوه وكبّروه كلٌّ من موقعه كما رعوا وكبّروا عائلاتهم وأبناءهم: وهنْاً على وَهْنٍ وجَلَدَاً على جَلَد!
جارنا العزيز "كريم موسى حدادين" (أبو حيدر)، والذي وافته منيّته وانتقل إلى رحمة الله تعالى وأمجاده السماويّة.. هو من هذا الصنف من الرجال.
بأعوام عمره التي ناهزت المئة، "أبو حيدر" هو أحد آخر "الفرسان"، حيث ينتمي إلى جيل الجدود الذين نالوا شرف الجُنديّة أيام الإمارة، وعاصر وزامل أسماء هي بالنسبة لأبناء جيلي بمثابة التاريخ والأسطورة مثل "زرقوش"، و"رشدي محمود ميرزا"، و"شكري إبراهيم/ أبو مريم"، و"عبد المجيد النسور/ وجه البلاد".. رحمة الله عليهم جميعاً.
حتى أواخر أيامه كان "أبو حيدر" عالي الهمّة، بالغ النشاط، يصحو مع الفجر وينام بعد الغروب، وينجز كلّ أشغاله بيده، ويسير مُنتصباً بقامته الفارعة كـ "القلم"، وبخطوات واسعة تشي بعسكريّته القديمة وتُشعركَ أنّ الباكورة بيمينه هي مجرد إكسسوار.
طبعاً كما هو متوقّع من عسكريّ أردنيّ ماعينيّ بمثل عمره، خَبِر ما خَبِر وعاصر ما عاصر وكابد ما كابد خلال حياته، كان "أبو حيدر" قويّ الشكيمة صعب المِراس، وأقرب إلى العناد.. دون أن ينتقص ذلك قيد أنملة من طيبة قلبه وأصالة معدنه.
أذكر مرّةً أننّا كنّا نصوّر فيلما توعويّاً حول "العنف الأسريّ" لصالح وزارة التنمية الاجتماعيّة، وكان السيناريو يتضمّن مقاطع تمثيليّة لشخص مُعنِّف تقوم الشرطة بإلقاء القبض عليه. وقد طلبتُ وقتها من أهلي الذهاب في زيارة إلى مسقط رأسي "جرش" ليومين حتى يتسنّى لنا تصوير كافة المشاهد المطلوبة في بيتنا، والذي هو شقة أرضيّة مستأجَرة جوار شقة "أبو حيدر" في العمارة التي يمتلكها.
وفي غمرة التصوير، فوجئتُ بالباب يُقرَع، وبـ "أبو حيدر" يقف بكامل هندامه والحطّة على رأسه والباكورة في يمينه استعداداً للذهاب إلى المخفر!
كان "أبو حيدر" يعلم أنّ أهلي في "جرش"، لذا عندما رأى سيارة شرطة بباب العمارة، وأحدهم يخرج مُكبّلاً ويوضع داخل سيارة الشرطة، بادر من تلقاء نفسه لـ "الفزعة" والوقوف إلى جانبي في غياب أهلي!
سكنانا في عمارة "أبو حيدر" أتتْ بمحض المصادفة!
كنتُ وقتها أبحثُ عن شقة لي ولأهلي بعد أن حسموا قرارهم بالرحيل من جرش إلى عمّان.
بحثتُ طويلاً أنا و"عمر"، ابن خالتي حُكْماً وصديقي قطعاً، دون أن نجدَ خياراً معقولاً ضمن الميزانية المتاحة.
وبالصدفة، اتصل بي ابن عمتي، وأخبرني أنّه لمح إعلاناً بخطّ اليد مُعلّقاً على إحدى الشرفات لشقّة للإيجار.
لم تكن منطقة تواجد عمارة "أبو حيدر" ضمن رادار بحثنا، ولكنّنا ذهبنا بكلّ الأحوال.
الشقة أعجبتنا مع أنّها ضمن عمارة عائليّة قديمة بعض الشيء، وليستْ إسكاناً حديثاً ضمن فورة الإسكانات المُستشريّة التي التهمتْ وتلتهم العاصمة عمّان وسائر المدن الأردنيّة.
الوقتُ كان متأخراً، لذا أردتُ تأجيل الموضوع لليوم التالي من أجل إحضار أهلي من "جرش" لرؤية الشقّة.
صديقي "عمر" اعترض، وقال لي: "دُق الحديد وهو حامي"، وبالفعل، اتصلنا بأهلي في "جرش" وقلنا لهم: "جهزوا حالكو"!
مشوار الذهاب إلى "جرش" والعودة بأهلي استغرق حوالي الساعتين، وعندما وصلنا كانتْ هناك عائلة أخرى قد انتهتْ توّاً من معاينة الشقّة.
العائلة أعجبتها الشقّة، وأرادتْ أن تستأجرها فوراً، ولكن "أبو حيدر" أخبرهم بأنّ هناك عائلة يُفترَض أن تأتي الليلة من "جرش"، إذا أرادوا الشقّة فالأوليّة لهم، وإذا لم يأتوا فالأولويّة لكم!
"أبو حيدر" فعل ذلك دون "عربون"، ودون أن يأخذ رقم هاتفي، ودون حتى أن نكون قد حسمنا قرارنا بعد باستئجار شقّته!
كما قلتُ، "أبو حيدر" كان قوي الشكيمة صعب المِراس وأقرب إلى العناد.. ولكنّه في نفس الوقت كان واضحاً و"دوغري" و"كلمته كلمة" حتى وإن بدا هذا الوضوح مزعجاً للكثيرين!
أليستْ هذه للأسف مشكلتنا كمجتمع وكدولة هذه الأيام: أنّنا شيئاً فشيئاً نفقد وضوحنا و"دغريّتنا" وكلمتنا؟!
إلى رحمة الله يا "أبو حيدر" أيّها الأردنيّ الأصيل..
وأطعمكَ الله من تينة زراقيّة سماويّة كتينتكَ التي نذرْتها للجيران تقطفُ لهم منها مع ندى الفجر، أو يقطفون هم كما يشاؤون..
وأطعمكَ الله "هريسةً" سماويّةً كهريستك التي كنتَ تصنعها بيديك، وتهدينا منها، وتحرص أن تكون غزيرة القطر رغم السكّري!
خلافي الوحيد مع "أبو حيدر" كان على القطط!
كان يعترضُ على قيامي بإطعام القطط في فناء العمارة، لأنّ هذا "بعطيها عين"، ويغريها بالقدوم والتجمّع والمكوث، جالبةً معها الإزعاج، ونابشةً أحواض الزرّيعة.
لكنّ موقف "أبو حيدر" من القطط تغيّر بشكل جذرّي منذ أن وُلِدتْ "كورونا" على شرفة بيته أيام حظر الكورونا!
هو و"أم حيدر" اللذان اسمياها "كورونا" تيمّناً بفيروس الكورونا!
في آخر عهدي به، وقبل وعكته الأخيرة، رأيتُ "أبو حيدر" عندما ذهبتُ لتفقّد خزانات المياه خلف الدار وهو يجلس على درجات غرفة الخزين و"كورونا" تتمرّغ في حجره.. مع أنّ "كورونا" قطة "شرنّة" ولا تتودّد لأحد!
نعزّي "أم حيدر"، ونعزّي الأبناء والأحفاد والأقارب والأهل في الوطن والمهجر، ونعزّي أنفسنا، ونعزّي "كورونا" وبناتها "شادية" و"صافيناز"، ونعزّي أشجار الحوش ودواليه ونباتاته وقوّارة الزعتر.. بوفاة الجار العزيز كريم حدادين "أبو حيدر"!
0 تعليق